إن الباحث في الفكر الإسلامي لابد وأن يقف على ما في الإسلام من تآخٍ بين العلم والدين، والنقل والعقل، والحكمة والشريعة، فالإسلام الذي كرم العلم والعلماء وأوصلهم إلى أن يشهدوا التوحيد مع الله ومع ملائكته، بريء تماماً من مسألة التعارض بين العقل والشرع، التي لا تعدوا في حقيقتها أن تكون مسألة وهمية.
فقد أمر الإسلام بفرضية العلم وجعله ضرورة واجبة على كل مسلم ومسلمة, وليس مجرد حق من حقوق الإنسان، وبهذا يختلف موقف الإسلام فقد قامت تعاليمه على أسس تدعو إلى تحرير العقول من الأوهام والخرافات.
إلا أنه ظهر في إطار هذه المسألة ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: يقرر أصحابه إن العقل يتقدم على الشرع، وأن كل المعارف إنما تكون بالعقل.
الاتجاه الثاني: يرى أصحابه إن السلطة المطلقة تكون للشرع، وليس للعقل أي مدخل فيما جاء به الشرع.
الاتجاه الثالث: وهو اتجاه يتوسط الاتجاهين السابقين وحاول أصحابه فض التعارض الموهوم، فذهبوا إلى أنه لا يوجد تعارض بين العقل والشرع وهو مذهب أهل السنة والجماعة ومنهم الأشاعرة وعلى رأسهم الإمام الغزالي لأن كليهما في نظره نور من عند الله، فلا ينقض أحدهما الآخر.
ولهذا تتجلى أهمية اختيار هذا الموضوع في إبراز الدور الكبير الذي قام به حجة الإسلام الغزالي في فض هذا التعارض الموهوم بين العقل والنقل، وإلى أي حد كان بمقدوره كشف حاجة كل منهما للآخر، ومحاولته إقامة نوع من المواءمة بينهما.
فمنهج المعرفة السوي _ في نظر الغزالي _ ينحصر في الجمع بين نور الشرع ونور العقل وعدم الوقوف عند ظاهر العقل أو ظاهر الشرع أو فصل أحدهما عن الآخر أو تحويلهما إلى ضدين متعارضين إذ إنهما، في حقيقة الأمر، متآخيان يفتقر أحدهما إلى الآخر.
كما حاول الغزالي إثبات أنه لاغنى للعقل والشرع، بعضهما عن البعض، وأن كلاً منهما في حاجة إلى الآخر، وأن المزج بين العلوم العقلية والعلوم الدينية أمر لابد منه لمن أراد الوصول إلى الحقيقة.
أما المنهج المتبع في هذا البحث؛ فهو المنهج التحليلي، وذلك من خلال تحليل نصوص الغزالي المتعلقة بهذا المبحث ، وقد قسم هذا البحث بعد المقدمة إلى مبحثين، وخاتمة