ظل الشعر في صدر الإسلام محتفظًا بكثير من القيم الجاهلية، خاصة عند شعراء البوادي، وظلت الغارات والغزوات بين القبائل العربية، وكثير من الشعراء لم يستطع التخلص من الانتماء القبلي القديم، فظل يفخر بالأنساب وأيام قبيلته، ومآثر آبائه وأجداده، في القِرى والنجدة والبأس، بل لعل الشعراء الأمويين كانوا من أكثر الشعراء ميلا إلى هذا الاتجاه، بسبب حرص الأمويين على بث روح العصبية بين القبائل؛ لأغراض سياسية. وسأحاول هنا أن أوضح أهم القيم الجاهلية في مختارات أبي تمام من شعر شعراء المسلمين في ديوان الحماسة، وهذا الأمر لا يخلو من صعوبات؛ لشدة التشابه، خاصة وأن هذه المختارات كانت في أغراض تلامس الحياة الجاهلية؛ وكثر تناولها عند شعرائها، كالحماسة، والنسيب، والمراثي، فجاءت معانيها وألفاظها لا تختلف في كثير من الأحيان عن المعاني والألفاظ الجاهلية.
وعلى الرغم من أن أبا تمام قسم ديوانه إلى أبواب، فجعل بابًا للحماسة أخذ نصف الديوان، وأبوابًا أخرى للمراثي والنسيب والهجاء والمديح، فإن المعاني في هذه الأبواب نراها متداخلة، فنجد الفخر بالنفس والقبيلة، وذكر الفتوة والثأر، والجود والكرم، في أغلبها؛ لذلك اعتمدت في إظهار أهم هذه القيم الجاهلية عند الشعراء المسلمين في هذا الديوان؛ على ذكرها في مطالب تحت المسميات الآتية: الفتوّة وركوب المخاطر، الفخر والعصبية القبلية، الثأر والصبر عليه، الرثاء والتأبين الجاهلي وشدّة الجزع، الهجاء والمدح، قيم جاهلية أخرى. والغرض من هذا ليس الإحاطة بما في هذا الديوان من قيم جاهلية ظهرت عند هؤلاء الشعراء المسلمين، وإنما الغرض هو إقامة الدليل على أن شعراء صدر الإسلام ظلوا في كثير من أحوالهم ينشدون الأشعار على الطريقة الجاهلية، وأنهم لم يستطيعوا التخلص من التقليد الجاهلي.